فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

سورة التين والزيتون:
مكية وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة مدنية.
وهي ثمان آيات.
وأربع وثلاثون كلمة.
ومائة وخمسون حرفاً.
{بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي وسع الخلائق عدله {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وفضله.
وقوله تعالى: {والتين والزيتون} قسم وتقدّم نظائر ذلك أقسم بهما لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة، روي أنه «أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه، وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس» ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة». وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي».
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو تينكم هذا الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت.
وقال عكرمة: هما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً؛ لأنهما منبتا التين والزيتون.
وقيل: {التين} جبال ما بين حلوان وهمدان، و{الزيتون} جبال الشام لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون.
وقال محمد بن كعب: {التين} مسجد أصحاب الكهف و{الزيتون} مسجد إيليا.
وقال الضحاك: مسجدان بالشام.
وقال ابن زيد: {التين} مسجد دمشق، و{الزيتون} مسجد بيت المقدس، وحسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة.
وقيل: {التين} مسجد نوح عليه السلام الذي بناه على الجودي، و{الزيتون} مسجد بيت المقدس.
{وطور سينين}، أي: الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عز وجل، وسينين وسيناء اسمان للموضع الذي هو فيه فأضيف الجبل إلى المكان الذي هو فيه.
وقال مقاتل والكلبيّ: {سينين} كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط ولم ينصرف {سينين} كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض، ولو جعل اسماً للمكان أو للمنزل، أو اسم مذكر لانصرف لأنك سميت مذكراً بمذكر وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدّسة، وقد بارك فيها قال الله تعالى: {إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله} (الإسراء).
ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه.
{وهذا البلد الأمين}، أي: الآمن، من أمن الرجل أمانة فهو أمين، وهي مكة حرسها الله تعالى؛ لأنها الحرم الذي يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام، لا ينفر صيده ولا يعضد ورقه، أي: شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله.
قال الزمخشريّ: ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر منها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومولد عيسى عليه السلام ومنشؤه والطور المكان الذي نودي منه موسى عليه السلام، ومكة البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه اهـ.
وقوله تعالى: {لقد خلقنا}، أي: قدّرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة والقدرة التامّة {الإنسان} جواب القسم والمراد بالإنسان: الجنس الذي جمع فيه الشهوة والعقل، وفيه من الإنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه الشامل لآدم عليه السلام وذريته.
وقيل: نزلت في منكري البعث.
وقيل: في الوليد بن المغيرة وقيل: كلدة بن أسيد. وقوله تعالى: {في أحسن تقويم} صفة لمحذوف، أي: في تقويم أحسن تقويم.
وقال أبو البقاء: {في أحسن تقويم} في موضع الحال من {الإنسان} وأراد بالتقويم القوام لأن التقويم فعل وذاك وصف للخالق لا للمخلوق، ويجوز أن يكون التقدير في أحسن قوام التقويم فحذف المضاف، ويجوز أن تكون في زائدة، أي: قومناه أحسن تقويم اه.
و{أحسن تقويم} أعدله لأنه تعالى خلق كل شيء منكباً على وجهه وخلق الإنسان مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها.
قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإنّ الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الله تعالى وعبر عنها بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» يعني: على صفاته المتقدّم ذكرها.
وفي رواية «على صورة الرحمن» ومن أين يكون للرحمن صورة شخصية فلم تكن إلا معاني.
وروي أنّ عيسى بن يوسف الهاشميّ كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني فبات بليلة عظيمة فلما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء واستشارهم، فقال جميع من حضر قد طلقت إلا رجلاً واحدًا من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم، فقال الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم {والتين والزيتون} إلى قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى: الأمر كما قال الرجل فأقبل على زوجتك، فأرسل المنصور إليها أطيعي زوجك فما طلقك.
وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى ولذلك قيل: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه.
{ثم رددناه} أي: بعض أفراداه بما لنا من القدرة الكاملة {أسفل سافلين} أي: إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، فقوس ظهره بعد اعتداله، وأبيض شعره بعد اسوداده، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوّته ضعف وشهامته خرف.
وقيل: ثم رددناه إلى النار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض.
فقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي: الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى: رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني: أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح، وعلى الأوّل منقطع، أي: لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى {فلهم} أي: فتسبب عن ذلك أن كان لهم {أجر غير ممنون} أي: ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم وفي الحديث: «إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل». وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر.
ثم قال تعالى إلزاماً للحجة: {فما يكذبك} أي: أيها الإنسان الكافر {بعد} أي: بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل ويصير في أحسن تقويم، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث، فيقول: إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان {بالدين} أي: الجزاء بعد هذا الدليل القاطع.
وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت.
وقوله تعالى: {أليس الله} أي: الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال {بأحكم الحاكمين} أي: بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله.
وفي الحديث: «من قرأ التين إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والتين أعطاه الله تعالى خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالتين والزيتون (1)}
قال أكثر المفسرين: هو التين الذي يأكله الناس {والزيتون} الذي يعصرون منه الزيت، وإنما أقسم بالتين؛ لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص، وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك، وجعلها على مقدار اللقمة.
قال كثير من أهل الطب: إن التين أنفع الفواكه للبدن، وأكثرها غذاء، وذكروا له فوائد، كما في كتب المفردات والمركبات، وأما الزيتون، فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية.
وقال الضحاك: {التين} المسجد الحرام، و{الزيتون} المسجد الأقصى.
وقال ابن زيد: {التين} مسجد دمشق، و{الزيتون} مسجد بيت المقدس؛ وقال قتادة: {التين} الجبل الذي عليه دمشق، و{الزيتون} الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وقال عكرمة، وكعب الأحبار: {التين} دمشق، و{الزيتون} بيت المقدس.
وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل.
وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية.
قال الفراء: سمعت رجلاً يقول: {التين} جبال حلوان إلى همدان، و{الزيتون} جبال الشام.
قلت: هب أنك سمعت هذا الرجل، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبت اللغة، ولا هو نقل عن الشارع.
وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء.
وقيل: إنه على حذف مضاف، أي: ومنابت التين والزيتون.
قال النحاس: لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوِّز خلافه.
{وَطُورِ سينين} هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى اسمه الطور، ومعنى {سينين}: المبارك الحسن بلغة الحبشة قاله قتادة.
وقال مجاهد: هو المبارك بالسريانية.
وقال مجاهد، والكلبي: {سينين} كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النبط.
قال الأخفش: {طور} جبل، و{سينين} شجر، واحدته سينة.
قال أبو على الفارسي: {سينين}، فعليل، فكرّرت اللام التي هي نون فيه، ولم ينصرف {سينين}، كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسماً للبقعة.
وإنما أقسم بهذا الجبل؛ لأنه بالشام، وهي الأرض المقدسة، كما في قوله: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وأعظم بركة حلت به، ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه.
قرأ الجمهور: {سينين} بكسر السين.
وقرأ ابن إسحاق، وعمرو بن ميمون، وأبو رجاء بفتحها، وهي لغة بكر وتميم.
وقرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والحسن، وطلحة: {سيناء} بالكسر والمدّ.
{وهذا البلد الأمين} يعني: مكة، سماه أميناً؛ لأنه آمن، كما قال: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67].
يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين.
قال الفراء وغيره: {الأمين} بمعنى الآمن، ويجوز أن يكون، فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل.
{لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} هذا جواب القسم، أي: خلقنا جنس الإنسان كائناً في أحسن تقويم وتعديل.
قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلاّ الإنسان، خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل.
يقال: قوّمته، فاستقام.
قال القرطبي: هو اعتداله واستواء شأنه، كذا قال عامة المفسرين.
قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» يعني: على صفاته التي تقدم ذكرها.
قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق، وعجيب الصنع، فلينظر في كتاب: (العبر والاعتبار) للجاحظ، وفي الكتاب الذي عقده النيسابوري على قوله: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وهو في مجلدين ضخمين.
{ثُمَّ رددناه أسفل سافلين} أي: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم، والضعف بعد الشباب والقوّة، حتى يصير كالصبيّ، فيخرف وينقص عقله، كذا قال جماعة من المفسرين.
قال الواحدي: والسافلون هم: الضعفاء، والزمناء، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً.
وقال مجاهد، وأبو العالية، والحسن: المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] فلا مانع من كون الكفار، والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل، وقوله: {أسفل سافلين} إما حال من المفعول، أي: رددناه حال كونه أسفل سافلين، أو صفة لمقدر محذوف، أي: مكاناً أسفل سافلين {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هذا الاستثناء على القول الأوّل منقطع، أي لكن الذين آمنوا إلخ، ووجهه أن الهرم والردّ إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن، كما يصاب به الكافر، فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى.
وعلى القول الثاني يكون الاستثناء متصلاً من ضمير {رددناه}، فإنه في معنى الجمع، أي: رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 3] {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} أي: غير مقطوع، أي: فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم؛ فهذه الجملة على القول الأوّل مبينة لكيفية حال المؤمنين، وعلى القول الثاني مقرّرة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الردّ، وقال: {أسفل سافلين} على الجمع؛ لأن {الإنسان} في معنى الجمع، ولو قال: أسفل سافل لجاز؛ لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد.
وقيل: معنى {رددناه أسفل سافلين}: رددناه إلى الضلال، كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] أي: إلاّ هؤلاء، فلا يردّون إلى ذلك.
{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} الخطاب للإنسان الكافر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وإلزام الحجة، أي: إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك {في أحسن تقويم}، وأنه يردّك {أسفل سافلين}، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أي: أيّ شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة، فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين.
قال الفراء، والأخفش: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين، كأنه قال: من يقدر على ذلك؟ أي: على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر، واختار هذا ابن جرير.
والدين الجزاء، ومنه قول الشاعر:
دنَّا تميما كما كانت أوائلنا ** دانت أوائلهم من سالف الزمن

وقال الآخر:
ولما صرّح الشر ** فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا ** ن دنَّاهم كما دانوا

{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي: أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً؟ حتى تتوهم عدم الإعادة والجزاء.
وفيه وعيد شديد للكفار.
ومعنى: {أحكم الحاكمين}: أتقن الحاكمين في كل ما يخلق.
وقيل: {أحكم الحاكمين} قضاء وعدلاً.
والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجاباً، كما تقدّم تفسير قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} [الشرح: 1].
وقد أخرج الخطيب، وابن عساكر قال السيوطي بسند فيه مجهول عن الزهري عن أنس قال:«لما أنزلت سورة {التين والزيتون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً شديداً حتى تبين لنا شدّة فرحه، فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال: التين بلاد الشام. والزيتون بلاد فلسطين».
و{طور سيناء} الذي كلم الله عليه موسى {وهذا البلد الأمين}: مكة {لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} محمداً {ثُمَّ رددناه أسفل سافلين}: عبدة اللات والعزّى: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ {فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} إذ بعثك فيهم نبياً، وجمعك على التقوى يا محمد، ومثل هذا التفسير من ابن عباس لا تقوم به حجة لما تقدّم من كون في إسناده ذلك المجهول.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {والتين والزيتون} قال: مسجد نوح الذي بني على الجوديّ، والزيتون قال: بيت المقدس: {وَطُورِ سينين} قال: مسجد الطور.
{وهذا البلد الأمين} قال: مكة {لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثُمَّ رددناه أسفل سافلين} يقول: يردّ إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله، هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} يقول: بحكم الله.
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضاً {والتين والزيتون} قال: الفاكهة التي يأكلها الناس {وَطُورِ سينين} قال: الطور الجبل.
والسينين المبارك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: {سينين} هو الحسن.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً: {لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} قال: في أعدل خلق: {ثُمَّ رددناه أسفل سافلين} يقول: إلى أرذل العمر: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} يعني غير منقوص.
يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر، وكان يعمل في شبابه عملاً صالحاً كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه، ولم يضرّه ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله: {ثُمَّ رددناه أسفل سافلين إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} قال: لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {ثُمَّ رددناه أسفل سافلين} يقول: إلى الكبر وضعفه، فإذا كبر وضعف عن العمل، كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته.
وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً».
وأخرج الترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً: «من قرأ {والتين والزيتون} فقرأ: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين».
وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً: «إذا قرأت {والتين والزيتون} فقرأت: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فقل بلى».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} قال: سبحانك اللَّهم فبلى. اهـ.